فجاة نظرت الى ساعة الحائط، الآن الساعة التاسعة والربع مساءً، وبحركة
اخرى اثارت استغراب من حولي نظرت لساعتي التي على معصم يدي، وامسكت بيد
شقيقتي لالقي نظرة على ساعة يدها..نعم كل الساعات تشير الى التاسعة والربع
ليلا ...يا الهي كيف مر الوقت؟ اذكر ان الساعة كانت تقارب الخامسة بعد
الظهر وكنت انتظر موعد الفلم العربي الذي اعتاد التلفزيون ان يبثه كل يوم
جمعة ... ارخى الليل سدوله. بدأت اسير من غرفة الى غرفة،كنت ابحث عنها في
كل مكان ...خرجت من البيت،صعدت الى السطح وطفت حول البيت علّي اجد لها
اثرا، توهمت اني ساجدها مرة اخرى...احضرت لي امي طعام العشاء، جلست واصرت
ان اجلس بجوارها، لقد كانت فرحة سعيدة، تنظر الي وتقول:
ـ لم ارك سعيدا لهذه الدرجة من قبل يا حسن..
تمنيت ان ابوح لها..
ـ انا سعيد يا امي لاني بجوارك، وسعيد بوجودك بجانبي...
وبدأت تحدثني بأيجاز عن العرس والصبايا، وعن بنت فلان وفلان، والصبية
فلانة. ابتسمت وتحدثت إليها وانا شارد الذهن، وانهيت حديثي وعدت لفتاة
احلامي...التي تحولت الى حقيقة...لست بمجنون أو مريض حتى لا استطيع التمييز
بين الحلم والحقيقة ...كل الدلائل والمؤشرات براهين دامغة، ادلة واضحة،
تثبت ان ما يحصل معي حقيقة وليس خيالاً ...اعدت التفكير مرة اخرى، استرجع
بذاكرتي ما كنت اعمله قبل ان تظهر لي، لقد كنت اقرا في كتاب، ايعقل اني
غفوت وحلمت بما رأيت ,مستحيل ان اكون قد غفوت، فالليل كان في بدايته، وكنت
انتظر الفلم العربي، واذا كان هذا قد حدث، فما هو تفسير هذا يا حسن ؟وهل
اصبحت تؤمن بالخرافات مثل "العجائز"؟ يا الهي ما اصعب ذلك!! اريد ان اصغي
الى نداء العقل، و الى شروح العلم وفلسفة الخرافات والرؤى، ولا اريد ان
اخضع للمنطق الذي سيحرمني من روحي وحياتي، ومن اجمل لحظات العمر ,الحلم
الجميل الذي اصبحت لا اريد تفسيراً له، وكل الذي اتمناه واريده هو حبيبتي،
تلك الافكار حولت نفسي لميدان عراك، اشتد فيه الصراع بين العقل والمنطق من
جهة، وبين العاطفة والقلب من جهة اخرى.
حسن ،هل جننت ...؟ وهل اصبحت تؤمن بالجن والعفاريت والخرافات التي لاتنتهي
في هذا المجتمع، كلمت نفسي حتى تملكني العناء ...تعبت حتى اخذ الارهاق لون
الصفار على وجهي...حسن :انت متعلم ..انت مثقف ..ان ما حصل والذي تتعرض له
انما هو نتيجة ظروف السجن والاعتقال ...لا تدع للاحلام والاوهام طريقا تدخل
بها الى عقلك فتداهمه وترهقه بما ليس له اساس ولا صحة ..؟
خلصت الى تحذير نفسي ... حذار يا حسن ان يعرف أي مخلوق كان بقصتك هذه، والا
ستتهم بالجنون، وستكون عرضة للسخرية، يهزأ منه الصغير قبل الكبير ...
آه كم هي طويلة ساعات هذه الليلة ..صراع محتدم بين الفكر والعاطفة، بين
العلم والخرافة، بين الثقافة والاحلام، وبين الحقيقة والخيال، بين الصح
والخطأ، صراع انتهى بتوصلي الى هذه النتيجة..."ان انسى كل ما حدث". بعد
ذلك غطّيت في سبات عميق حتى ساعات متاخرة من صباح يوم جديد .
على تلك الحادثة توالت الايام وتعاقبت الليالي، انقضى شهر باكمله، وفي ذات
ليلة ، وبينما كنت جالسا في حديقة المنزل شارد الذهن أسرح بخيالي إلى بعيد،
اعانق النجوم تارة واهيم في ملكوت الله تارة، متفكرا ، مقتنعا ان نفسي
كما هو حال قلبي نمت في ثناياها وثنايا القلب أشواق الحب التي راحت تتزايد
وتتسع بنهم شديد.
ـ مساء الخير يا حسن ...
ـ مساء الخير يا حسن ...
تقطعت اوصالي وانهدت جوانحي، ها أنا أعود الى تلك الحالة: لا حراك
ولاكلام ...نظرت نحو مصدر الصوت، واذا بها هي نفسها شعر اسود وثوب اخضر
بهيج وابتسامة عذبة لا تنتهي، تسير قادمة صوبي بنفس الخطى والسحر
والثقة...اقتربت اكثر فاكثر، دنت حتى جلست بجانبي لم احرك ساكنا، لم اصدق
ما اشاهد، راحت عيناي تتفحصها، وتتأمل سحرها الاخاذ الذي لا يوصف، حاولت
النطق فلم استطع، وكأن لساني شل واصابه البكم، عجزت عن الكلام وعجز اللسان
عن الوصف، نظرت اليّ وكانها تود ان تعيد الى نفسي وقلبي الطمانينة
والراحة والسكون، فلم اكن خائفا ولم اكن فزعا، بل مرتبكاً من السعادة
والشعور الكبير بالفرح والنشوة...تحرك لساني بعد شلل، فسألتها :
ـ قولي لي..
فأجابت بهمس الكلام، وبصوت عذب هادىء، كدفق الالحان والانغام:
ـ انا غادة يا حسن، انا الان بجانبك وجئت لزيارتك، ولا وقت لدي للاجابة على
كل أسئلتك... لكني سأعود قريباً واجيبك على كل أسئلتك ...والآن انتهى
وقتي ويجب أن أعود.
اختفت غادة من جديد بعد أن تركتني في حيرة من امرها وقدرتها الخارقة على
قراءة افكاري، واجابتها على اسئلتي قبل ان انطق بها... غادرتني هذه المرة
والسعادة ترتسم على وجهي وقد عرفت لها اسما اناديها به. قطعت الشك باليقين
بان ما يحدث حقيقة...ازداد قلبي تعلقا بها وازدادت روحي هياما بجمالها،
ونفسي ابت ان تسكنها روح سواها .
بدأت انظر الى الغد المشرق الذي يبشر بالسعادة والهناء، إلى الغد الذي
سأرى فيه وجه غادة ، سحابة لابد من مرورها ، انها سحابة تضارب الافكار
المحملة بالوساوس، التضارب الذي يعكر صفو المساء وسعادة الروح انه السؤال؟
فهل يعقل انني احببتها كل هذا الحب وانا لم اشاهدها الا عدة مرات؟ ايعقل ان
تكون مرآة الحب عمياء الى هذه الدرجة ؟.. انها لم تكلمني ولم اكلمها الا
عدة كلمات لعدة لحظات ...كيف يحدث ذلك؟ وانا لا اعرف عنها شيئاً ...ثم
أُطمئنُ نفسي قائلا:"الايام قادمة وعندما ألتقيها في المرة القادمة سأعرف
عنها كل شيء".
انقضت الليلة وتبعتها الايام، وانا امضي معظم ساعات المساء من كل ليلة في
حديقة المنزل وانا انتظر مجيئها ...وبينما كنت قلقا ذات مساء في ليلة
قمراء، باغتني صوت امي الحبيبة:
ـ " قلي مين هي سعيدة الحظ اللي شاغلة بالك يا حسن؟ قلُّي وانا بروح
اخطبها الك، وخلينا نفرح فيك يا حسن، مش هي ام الشعر الاشقر...والله يا عم
انها حلوة وبتستاهل، ولوَنو امها مش ولا بد، وبتفكر حالها في اميركا ...طيب
انا رايحة انام، واول على آخر راح اعرف...بدك مني إشيء قبل ما اروح؟"
قلت وأنا أبتسم:
ـ شكرا يا امي، تصبحين على خير ...
استدارت امي عائدة الى البيت، وتوارت عن ناظري.. هبت نسمة صيفية ناعمة
خفيفة تحمل معها صوتاً ملائكياً عذباً. حتى أنه لو اشتد هبوب النسمة شيئا
قليلا لما كنت سمعته ...
ـ سارح في مين يا حسن؟ في سوزي ولا في امها ...؟
وما ان التفتُّ الى مصدر الصوت حتى كاد قلبي يقفز من موضعه، انها غادة ذات
الجمال الذي يعجز عنه الوصف، تجلس على حافة سور الحديقة تحت ضوء القمر
الذي زاد جمالها ابهة، وزاد حسنها دلالا...خمّرت روحي واسرت قلبي وعواطفي،
وراح العقل يحلل كلامها أيصدق أم يكذب، ايعقل انها سمعت ما دار من حديث
بيني وبين امي ...لا ، كيف ذلك ؟ انه امر عجيب،كيف عرفت غادة ان التي كانت
تقصدها امي هي سوزي ؟ اقتربت بخفة ريشة ناعمة على نسمة الصيف الدافئة حتى
دنت مني وجلست على كرسي القش القديم...اخذ النسيم يداعب شعرها الناعم وهي
تقول :
ـ "حسن: ما بك لماذا انت مذهول ...هل هذه اول مرة تراني فيها ؟ ام ان
معرفتي لاسم سوزي جعلك غير قادر على التركيز، فهذه بسيطة كل ما في الامر
اني سمعت حديثك مع امك...ومن خلال قدرتي على الاتصال بأفكارك عرفت اسم سوزي
...حسن لماذا لا تتكلم.صحيح اني استطيع قراءة ما يجول في خلدك، ولدي
القدرة على معرفة كل ما تفكر به الان، إلا أنني يا حسن في شوق لسماع صوتك
...حسن، لا داعي للحيرة، تكلم اعلم انك تريد مساءلتي ...طيب يا حسن
سأساعدك، انت تريد ان تسالني من انا، هيا اسأل ..."